كثر العاملون عن بعد في اﻷعوام الأخيرة إما عملًا حرًا أو نظاميًا، وقفز هذا النمط قفزات كبيرة وتغير كذلك عدة مرات في تلك الأعوام، وربما نشهد استقرارًا نسبيًا لتقلباته على المدى القريب، وإن كانت الطبعة الأولى من هذه السلسلة التوظيف عن بعد، تبشر به وتدعو الناس إليه وإلى مزايا التعامل مع الموظفين عن بعد، فقد كان لزامًا علينا تحديث السلسلة والتوسع فيها وعرض المشاكل التي تواجه الذين يوظِّفون عن بعد، فقد طرأت مشاكل جديدة لم تكن موجودة من قبل استحداث هذا النمط من العمل، وسنذكر بعض الحلول لتلك المشاكل مما رأيناه في السوق أو جربناه بأنفسنا.

وكانت الوظائف التي تسمح بالعمل عن بعد في الغالب في المجال التقني أو المجالات التي تعتمد على التقنية في مهامها اليومية، حيث يكون المنتج مادة تُنشأ وتعالَج وتُخرَج على الحواسيب، إما برمجيات أو تصاميم أو نصوص أو مرئيات أو مواد مالية أو غيرها، على عكس المجالات التي تكون المنتجات فيها حقيقية مثل المصانع والمتاجر التي لا بد من تواجد حقيقي للموظفين في محل الإنتاج أو البيع.

ولم يتمتع برفاهية العمل عن بعد إلا قلة ممن اضطروا إليه أو كانت شركاتهم تسمح بهذا، إلا أن التطورات التي حدثت في الأعوام الأخيرة -خاصة وباء كوفيد- أجبرت المؤسسات قاطبة على تبني هذا النمط من العمل، وتبع ذلك تغيير للبنية التحتية التقنية، وتدريب الموظفين الحاليين أو الجدد على أداء المهام عن بعد والتنسيق بين العاملين وبعضهم، وكذلك تغير في لوائح العمل التنظيمية بين الموظفين والشركات.

وفي هذا نشر كل من جوناثان دِنجل Johnathan Dingel وبرِنت نيمَن Brint Neiman من جامعة شيكاغو دراسة حول مجالات العمل التي يمكن إتمامها عن بعد، خلصت إلى أن 37% من الوظائف التي في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن تنفيذها عن بعد، وأن الوظائف التي يمكن إتمامها عن بعد يحصل أصحابها على أجور أعلى في الغالب من نظرائهم، مع الاستثناءات التي تدخل في حساب الأجور لبعض الشركات، مثل محل إقامة الموظف وسياسة الشركة في العمل عن بعد، فقد يحصل بعض الموظفين عن بعد على رواتب أقل من زملائهم إذا كانوا يعملون من مدن أرخص في تكاليف المعيشة، أو يحصلون على مكافآت إضافية إذا كانت الشركة تريد من موظفيها أن يعملوا عن بعد.

وقد تصدرت في تلك الدراسة وظائف مجالات الحوسبة والتعليم والتدريب قائمة الوظائف التي يمكن إتمامها عن بعد، تليها الوظائف القانونية والإدارية ووظائف التصميم والهندسة المعمارية، في حين أتت الوظائف التي لا بد لها من حضور في أسفل القائمة، مثل الوظائف التي في مجال تجهيز الطعام وتقديمه، والبناء والتنظيف والصيانة، وكذلك الوظائف الإنتاجية والزراعية والصيد وغيرها.

وتلجأ الشركات الآن إلى التوظيف عن بعد بطرق مختلفة، غير أن الأسباب تكاد تكون نفسها في كل حالة، وهي أن التوظيف عن بعد يوفر كفاءات غير موجودة محليًا، ويوفر على الشركة بعض نفقات التوظيف المحلي، فقد رأت الشركات تلك النتائج في الأعوام الماضية بعد فرض نمط العمل عن بعد طوعًا أو كرهًا على أغلب المؤسسات الخاصة والحكومية، وربما يحسن بنا شرح بعض المصطلحات التي سيرد ذكرها في هذه السلسلة قبل أن نشرع في مادته.

محتويات المقالة

العمل عن بعد واختلافه عن أنواع العمل الأخرى

يحدث أحيانًا خلط بين العمل عن بعد والعمل المستقل أو الحر، فصحيح أن كلاهما يعمل بعيدًا عن مقر العمل أو الشركة، ولكن هنالك فرق كبير في تبعية العامل لصاحب العمل أو الشركة التي يعمل معها أي تحديدًا في عقد العمل، ومن ذلك تنبثق مفاهيم أخرى تأخذ تسميات تبعًا لعقد العمل ولكن كلها تصب كما ذكرنا في مفهوم العمل بعيدًا عن مقر الشركة أو صاحب العمل، ولن نتطرق بالطبع إلى مفهوم العمل التقليدي الذي يحضر فيه العامل إلى مقر العمل فهو خارج نطاق هذه السلسلة.

العمل البعيد أو العمل عن بعد

نقول أن وظيفة ما تدخل تحت مظلة العمل عن بعد إذا كان الموظف يعمل من موقع غير تابع للشركة، فهو بعيد عنها أثناء وقت العمل وبعده، فيعمل من بيته أو من مساحة عمل مشتركة أو أي مكان آخر، وهو يتبع الشركة إداريًا وتنطبق عليه لوائحها التنظيمية، وتكون الشركة مسؤولة عنه أمام قانون العمل في الدولة التابعة لها الشركة -تدخل فيها غالبًا التأمينات والضرائب- وفق الشروط المتفق عليها بينها وبينه، فهو جزء من الشركة غير أنه لا يعمل في مكتبها المعتاد ولا يذهب إليها في أيام العمل.

أود التنبيه على أمر، وهو أنه عندما نذكر العامل عن بعد فإننا نشير إلى المفهوم السابق تمامًا، ولكن قد يُطلق مجازًا على عامل مستقل على أنه عامل عن بعد إشارةً إلى أنه يعمل بعيدًا من منزله مثلًا.

العمل الحر أو المستقل

يختلف نظام العمل الحر أو المستقل على الإنترنت عن العمل النظامي عن بعد في أن العامل به لا يكون تابعًا للشركة أو العميل الذي ينفذ له العمل، بل يتعاقد مع الشركة في كل مشروع ينفذه لها، وهذا يعطيه حرية التعاقد مع غيرها في نفس الوقت، وهو الأمر الذي قد لا يكون مسموحًا به في العمل النظامي، وإن سمحت به الشركة فيجب أن يكون في غير أوقات العمل التي تخصصها.

وهذا اختلاف آخر للعمل الحر، فالعامل المستقل أو الحر يعمل في الأوقات التي يختارها وتناسبه، وفي الأيام التي يختارها كذلك، ولا نعني بهذا أنه لا يعمل بنظام لنفسه، وإنما نقصد أنه لا يتقيد بمواعيد عمل العملاء والشركات التي يتعاقد معها.

كذلك فإنه يعمل لحسابه الخاص، وهذا يعني أنه مسؤول عن تأميناته الاجتماعية والصحية وضرائبه وغيرها أمام الدولة التي يعمل منها إن كان لديها تشريعات للعمل الحر، وهنا قد يعهد بتلك الأمور إلى متخصصين ينظمونها له أو قد يقوم بها بنفسه إن كان يستطيع أو كان لديه وقت. يختلف هذا في حالة العمل البعيد المنتظم في أن الشركة تتولى تلك المسؤوليات عن الموظف، لكن هذا يعني أنه يخضع للوائحها التنظيمية أيضًا فيما يخص المكافآت والجزاءات وغيرها.

التوظيف النظامي والتعاقد الحر

تعرضنا في النقطتين السابقتين لنموذجين من العمل، هما التعاقد المنتظم، وذلك في حالة العمل البعيد، والتعاقد الحر في حالة العمل المستقل، وعرفنا أن التعاقد المنتظم هو نفسه التعاقد مع الموظف على العمل للشركة، ولكن دون الحاجة إلى الذهاب إلى مقر الشركة، فلا يختلف عن العمل المعتاد إلا في مكان العمل ليس إلا.

وتظهر الحاجة للتفريق بين النظامين لأن كليهما عمل عن بعد، غير أن المتعاقد الحر أو المستقل يعمل لحسابه، ولا يتبع الشركات التي يتعاقد معها إداريًا، وقد يمثل نفسه أو يمثل شركة يملكها أو فريق عمل ينفذون جميعًا المهام المتفق عليها مع الشركة أو العميل.

التعهيد الخارجي

تلجأ الشركات إلى التعهيد الخارجي لبعض المهام التي لا تريد إدراجها ضمن نشاطاتها لسبب أو لآخر، فقد تكون خارجة عن تخصص الشركة أو لا تحتاج إليها بالقدر الذي يتطلب معها توظيف عمالة دائمة، أو تعهد الشركة بعملية توظيف العمالة في بعض الوظائف إلى شركات توظيف خارجية إلى حين مدة معينة أو إلى حين تحقيق نتائج معينة، ينتقل بعدها الموظفون -إداريًا- من شركة التوظيف إلى الشركة الأساسية.

كذلك يلجأ بعض المستقلين إلى تعهيد بعض مهامهم إلى مستقلين آخرين أو شركات أخرى توفيرًا للوقت ولضمان جودة التنفيذ إذا كانت المهام تخرج عن تخصصهم، لكن هذا يكون في حالة المستقل الذي له عملاء كثر بحيث لا يستطيع متابعة المهام الإدارية بنفسه، فقد يعهد حينئذ بمهام المحاسبة والضرائب إلى شركة محاسبية، ويوظف مساعدًا افتراضيًا لتنظيم مهامه الإدارية، وهكذا، وإن كان يعمل على مشاريع كبيرة فقد يوظف بعض المستقلين ليحملوا عنه بعض المهام، مثل الترجمة الأولية أو المراجعة اللغوية أو تصميم تطبيقات الويب أو برمجة الواجهات الخلفية، أو اختبار التطبيقات، وغيرها مما يخرج عن صلب تخصصه.

وتعاقد الشركة مع شركة التوظيف هو تعهيد خارجي، وتعاقدها مع مستقلين هو تعهيد خارجي كذلك، فكل تعاقد حر لا تنطبق عليه اللوائح التنظيمية للعميل يُعد تعهيدًا خارجيًا، وإن كان المصطلح يُستخدم في المهام التي يُعهد بها بانتظام كالأمثلة التي ذكرناها.

فوائد العمل عن بعد للشركات

تبرز عند الحديث عن فوائد العمل الحر فائدتان عظيمتان تكادان تتفردان بأغلب الحديث، وهما توظيف الخبرات وترشيد التكاليف، إضافة إلى فوائد أخرى نتناولها تباعًا.

الوصول إلى أفضل الكوادر

يعني اعتماد الشركة للعمل عن بعد أنها لم تعد مقيدة بالكفاءات المحلية، ولا مضطرة لافتتاح فرع في المدينة التي توجد فيها الكفاءات المطلوبة فضلًا عن تأسيس الشركة في تلك المدينة، وهو ما كان يمثل عقبة في طريق الكثير من الشركات ويضطرها للانتقال إلى العاصمة أو إلى دولة أخرى حتى من التي توجد فيها تلك الكفاءات والكوادر.

وهذا الاتصال الجديد يقرب بين رؤوس الأموال والشركات وأصحاب الأفكار بالكوادر المهنية والتي قد لا تجد مجالًا للعمل بتخصصها في محيطها المحلي، تقاربًا عظيمًا يحقق فوائد لأي طرف تمسه هذه العملية، فهي توفر بيئة خصبة لرؤوس الأموال والشركات أن تزدهر وبسرعة، مع استخدام أفضل الكوادر المتاحة للعمل بغض النظر عن الموقع الجغرافي لتلك الكوادر، وهذا بدوره يحل مشكلة البطالة من جهة، ومشكلة المدن الطاردة للسكان أو تكدس السكان في المدن الصناعية والعواصم المالية، فلا يضطر العاملون لترك أهليهم للعمل في تلك المدن، أو حتى الهجرة بهم إلى تلك المدن، بما أنهم صاروا يعملون عن بعد.

ويؤدي اجتماع تلك الكوادر متعددة الخلفيات العلمية والثقافية إلى تطور سريع للمؤسسة أو الشركة لم تكن لتشهده لو كان العاملون من مدينة واحدة، وهذا معلوم بالمشاهدة في الحضارات التي ازدهرت من قبل، أيام الخلافة العباسية، وفي الأندلس، وفي العصر الحديث في الشركات الكبرى التي توظف من جنسيات متعددة مثل جوجل وإنتل وفيس بوك وغيرها.

وقد كان لشركة حسوب باع سابق في هذا إذ اعتمدت العمل عن بعد منذ بدئها، واستفادت منه في جمع كوادر نابغة عربية من شتى بلدان الوطن العربي، فاجتمع من في المغرب مع من في العراق وسوريا ليعملوا معًا دون عوائق جغرافية أو سياسية، أو حتى زمنية.

ترشيد التكاليف

كذلك يحقق العمل عن بعد فائدة أخرى لأصحاب الشركات، وهي ترشيد النفقات وتقليل مصارفها، مما يسمح بإعادة توجيهها مرة أخرى في صورة استثمارات أو تطوير للشركة نفسها، ولكن كيف هذا؟

تحتاج الشركة في حالة التوظيف المحلي إلى الانتقال إلى العواصم المالية أو المراكز الصناعية ابتداءً، وهذا وحده يعني زيادة في تكاليف التشغيل، ثم توظيف الكفاءات الموجودة محليًا، والتي ستنفق نصيبًا لا بأس به من الراتب في الانتقالات وتكاليف المعيشة الغالية في تلك المدن الكبيرة، مما يضطر الشركة إلى رفع متوسط الرواتب لتعادل غلاء المعيشة، وهذا يزيد مرة أخرى من تكاليف التشغيل للشركة.

أما عند اعتماد نفس الشركة للعمل عن بعد، فلا تحتاج إلى الانتقال لتلك المراكز المالية في الغالب، وإن احتاجت لأسباب قانونية أو إدارية فإنها ستكون على الأقل انتهجت سبيلًا أقل كلفة من التوظيف المحلي، ذلك أنها ستوظف كفاءات عن بعد، مما يعني أن العاملين يكونون في الغالب من مدن تكلفة المعيشة فيها أقل من تلك المراكز الصناعية والمدن الكبيرة، وهو ما تفعله بعض الشركات التقنية الكبرى الآن من حث لموظفيها على الانتقال إلى مدن أقل تكلفة في المعيشة.

وهنا تنقسم الشركات في سياساتها المالية بين من يعتمد على متوسط الراتب للمدينة أو الدولة التي فيها الموظف، وبين من يرفض تلك السياسة جزئيًا، مثل شركة ريديت Reddit التي ألغت سياسة الدفع الجغرافي في 2020 للموظفين الأمريكيين فيها، واعتمدت بدلًا من هذا على نطاقات للرواتب للمدن عالية التكلفة مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، وتبعتها في هذا كل من شركتي زيلّو Zillow وأُكتا Okta في العامين التاليين.

وكذلك تبعتهم شركة بافر Buffer بنهج مشابه، إذ حددت نطاقين للرواتب فيها، هما النطاق العالمي، والنطاق الخاص بالمدن عالية التكلفة، إذ تقول جيني تيري Jenny Terry مديرة العمليات فيها أن الشركة تريد نقل جميع الموظفين إلى النطاق العالي، لكن هذا قد يكلف الشركة نحو مليون دولار، لذا تنتهج أسلوبًا مرحليًا للوصول إلى هذه النقطة، ويقول مدير الشركة أنه يهدف بالنهاية إلى تقديم نفس الراتب للوظيفة الواحدة بغض النظر عن موقع العامل فيها، غير أن هذا سيكلف الشركة أموالًا كثيرة، لذا يؤجل هذا القرار إلى حين توفر القدرة المادية على ذلك.

ثم إن الشركات وفرت أموالًا طائلة كانت تدفعها في نفقات المكاتب الخاصة بالموظفين وتشغيلها، وإن كانت لا تزال تدفع تكاليف برامج الاجتماعات والعمل المشترك عن بعد، وقد استغلت بعض الشركات نمط العمل عن بعد في تخصيص مقراتها لتدريب الموظفين الجدد تحت إشراف من موظفين أقدم منه وأكثر خبرة، ثم ينتقلون بعدها إلى العمل عن بعد كليًا أو جزئيًا وفق سياسة الشركة، وهكذا وفرت الشركات على نفسها تكلفة زيادة سعة المقرات الحالية لها، ولم تخسر تلك المقرات بتركها فارغة عند عمل الموظفين عن بعد.

فوائد العمل عن بعد للموظفين

تنقسم الفوائد التي يجنيها الموظفون عند العمل عن بعد إلى قسمين رئيسيين أحدهما اجتماعي والآخر مادي، مع بعض الفوائد الأخرى التي قد لا تندرج بالضرورة تحت أي منهما.

الفوائد المادية

تظهر الفائدة المادية بداهة في توفير نفقات الانتقال من العمل وإليه إن كان الموظف في نفس المدينة، وتكلفة السكن في المدينة التي فيها الشركة إن كانت في مدينة مختلفة فضلًا أن تكون في دولة مختلفة، كما تظهر في جانب آخر كان موجودًا من قبل ثم برز بعد ازدهار العمل عن بعد مؤخرًا.

ذلك أن بعض الدول والشركات تقدم مكافآت للعاملين الذين ينتقلون إلى مدن بعينها شهرية أو سنوية، أو تُدفع مرة واحدة عند الانتقال إليها، وذلك كانت تفعله مصر في بعض المدن الساحلية النائية لتشجيع الانتقال إليها، فيزيد راتب العامل فيها إلى قرابة الضعف، وكذلك تفعل بعض الولايات في أمريكا إما لقلة عدد سكانها أو لأسباب أخرى، مثل ولاية ألاسكا.

ثم برز هذا الأمر في السنوات الأخيرة لتقدم بعض تلك الولايات تسهيلات أخرى خاصة بالعمل الحر والعمل عن بعد، سواء للمقيمين في الولايات المتحدة أو الراغبين في الانتقال إليها، فيما صار يُعرف بمدن زووم Zoom Towns إشارة إلى برنامج الاجتماعات المرئي الذي يُستخدم بكثرة في العمل عن بعد، وأُطلقت مبادرات قبل عدة أعوام -كمبادرة تولسا ريموت Tulsa Remote في 2018 لمدينة تولسا الأمريكية- لتدشين حركة الانتقالات تلك رسميًا، كما توفر بعض الولايات مثل مينيسوتا تسهيلات أخرى غير الحوافز المادية، مثل مساحات العمل المشتركة المجانية.

وكذا في بعض الدول الأخرى مثل إسبانيا وتشيلي وسويسرا وإيطاليا واليونان وكرواتيا وغيرها، والجامع فيما يظهر من تلك المدن والدول أنها جميعًا تسعى لجذب مجموعة متنوعة من الكوادر العاملة إليها لتنويع مجتمعاتها، خاصة النائية قليلة السكان منها والتي ليس فيها محفزات للانتقال إليها والاستقرار بها كأن تكون بها موانئ أو مصانع أو مساحات زراعية أو غير ذلك.

الفوائد الاجتماعية

أما الفائدة الأخرى، وهي الفائدة الاجتماعية، فتظهر في قرب العاملين من ذويهم والقدرة على صلة أرحامهم في الأوقات التي كانت تضيع في الانتقالات أو الإجازات الأسبوعية التي كانت في مدن غريبة عليهم ليس فيها أحد من عوائلهم.

كذلك يستطيع العاملون تنفيذ بعض المهام المنزلية التي لم يكونوا يجدوا لها وقتًا في العادة، أو كانوا يضطرون لاقتطاع إجازة من العمل من أجلها، مثل إيصال الأولاد إلى المدارس أو زيارة الطبيب، وتزيد أهمية هذه الأمور في حالة المرأة العاملة، خاصة التي لها أولاد، فليست مضطرة إلى السفر والاغتراب في هذا النمط، كما تستطيع العناية بأولادها مع تنفيذ مهام العمل دون تعارض بينهما.

كما يوفر نمط العمل البعيد فرصة لمن يريد قضاء بعض الوقت في مدن أو قرى هادئة لكنه لا يستطيع بسبب انشغاله بعمله، حيث يستطيع العامل عن بعد أن يحمل معه مكتبه حيث شاء بما أنه لا يحتاج إلا إلى حاسوب محمول في الغالب، ويعمل من تلك المدن دون الحاجة إلى اقتطاع إجازة مخصصة لهذا الغرض.

عوامل ازدهار العمل عن بعد

سار العمل عن بعد بوتيرة بطيئة منذ نشأته، ولم تكن المؤسسات مقتنعة بجدواه ولا تملك رفاهية تجربته في الغالب أو ليست مضطرة إلى تجربته فالإنسان عدو ما يجهل، وبدأ بالصورة التي نعرفها الآن منذ سبعينيات القرن الماضي في شكل تجربة داخل شركة IBM لخمسة موظفين زاد عددهم بعدها إلى ألفين، ثم بدأت بعض الشركات الناشئة في التسعينيات بتبنيه رويدًا بسبب قلة الموارد المتاحة لها في نشأتها، ثم أتت الألفية الجديدة.

العوامل التقنية

مع دخول هذه الألفية أتى التطور المتسارع في البنى التحتية للسوق البرمجي، بداية من تقنيات الاتصال الإلكتروني والإنترنت فائق السرعة، إلى البرمجيات التشاركية collaborative software وبرامج الاتصال المرئي والصوتي والحوسبة السحابية، ومرورًا بالقفزات الكبيرة التي حدثت في تصنيع الرقاقات الإلكترونية والمعالجات الدقيقة للحواسيب، وقد اجتمعت تلك العوامل كلها في خدمة الشركات التقنية الراغبة في تطوير أعمالها.

ثم أتت طبقة الشركات التي تخدم تلك الأولى بتوفير برمجيات تسهل أعمالها، وهي شركات البرمجيات الخدمية Software as a Service أو SaaS‎ التي وجدت في نمط العمل عن بعد خيارًا ممتازًا لها مثل شركة 37Signals التي كانت من أبرز المتبنين لثقافة العمل عن بعد حيث لم تكتف به فقط، بل دعت إليه في عدة كتب ألفها مديرو الشركة إضافة إلى الكثير من المقالات التي تحث العاملين في التقنية ابتداءً ومن يستطيع تبعًا على الانتقال إلى هذا النمط الجديد.

وقد استفادت الشركات العاملة عن بعد كليًا أو جزئيًا من التطور المذهل في تقنيات الاتصال والعمل المشترك عن بعد أيما فائدة، فانتقلت المشاريع من خوادم الشركة وحواسيبها المحلية إلى الخوادم السحابية، ليتمكن أفراد الشركة من متابعة العمل من أي مكان وفي أي وقت، كما استفادت من هذا التطور في أوجه أخرى كما سنرى أدناه.

تطور البنية التحتية للإنترنت

لم يكن العمل عن بعد متاحًا بالصورة التي عليها الآن لو عدنا بالزمن عشرين أو خمسًا وعشرين سنة إلى الوراء مثلًا، ذلك أن البنى التحتية للاتصالات لم تكن تتحمل النقل السريع للبيانات والملفات الكبيرة، ولا العمل المشترك عن بعد، فضلًا عن جمع هذا إلى أمر بسيط مثل الاجتماعات المرئية، وقد سمح تطور البنى التحتية الإلكترونية من معالجات وتقنيات لنقل البيانات عبر الألياف الضوئية وغيرها، سمح ذلك بإنشاء شركات لخدمات برمجية ما كان يمكن إنشاؤها على البنية القديمة التي كانت سرعات الإنترنت فيها بطيئة للغاية.

العوامل الاقتصادية لازدهار العمل عن بعد

تتأثر الشركات بالتغيرات الاقتصادية في الدولة العاملة بها تأثرًا مباشرًا، وقد تفقد حصة كبيرة من سوقها في ظرف مفاجئ، أو تفقد بعض العاملين فيها لظروف خارجة عنها أو حتى اختيارًا من العاملين أنفسهم كما حدث في الولايات المتحدة إبان وباء كوفيد-19، فتلجأ إلى التوظيف عن بعد لحل تلك المشاكل، هذا غير الشركات التي اختارت هذا النمط ابتداءً كما ذكرنا سابقًا دون عوامل تضطرها إلى ذلك.

وقد اتجه كثير من العاملين إلى نمط العمل البعيد اختيارًا لما وجدوا فيه من حرية أكبر للعمل بما أنهم ينجزون مهامهم دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكتب، وهذا التفضيل يفيد الشركات في الغالب ولا يضرها بما أنه يفتح فرصة للشركة أن توظف كفاءات بعيدة دون الحاجة إلى استجلابها محليًا وتقنين وضعها داخل الدولة.

والناظر إلى الواقع في الأعوام العشرة الماضية يجد كل حدث كبير وقع حول العالم يزيد التوجه إلى العمل عن بعد ولا يقل منه، وما يجده العاملون في نمط العمل عن بعد من فوائد مما ذكرناه من قبل، وقد ساعد في هذا التطور التقني الذي لا يهدأ في سوق الخدمات الرقمية المُقدَّمة للشركات فيما يخص التحول الرقمي أو العمل عن بعد، فشكل هذا مخرجًا لأي أزمة تؤثر على سوق العمل في أي دولة، فبدلًا من زيادة البطالة وما يتبعها، يبحث العاملون عن فرص متاحة للعمل عن بعد إما في مدينة أخرى أو دولة أخرى.

ومن ناحية أخرى، فإن العمل عن بعد يوفر لصاحب الشركة فرصة تسجيل الشركة في المكان الذي يريده ويناسبه بغية الحصول على مزايا بعينها جراء التسجيل في تلك الدولة، مع الحفاظ على إمكانية توظيف من يشاء من أي مكان يريد، وهو الأمر الذي لم يكن متاحًا من قبل بتلك السهولة، إذ كان عليه معالجة الإجراءات القانونية الخاصة بكل دولة سيعمل فيها أو يوظف منها.

العوامل الاجتماعية لازدهار العمل عن بعد

استغل كثير من الموظفين فترة العمل عن بعد في الانتقال إلى جوار عوائلهم إن كانوا يعملون في مدن بعيدة، وإيلائهم مزيدًا من الاهتمام والرعاية، فالعامل عن بعد يوفر وقتًا بين ساعة إلى أربع ساعات كل يوم كانت تضيع في الذهاب إلى العمل والعودة منه.

كذلك ظهرت حالات هجرة إما فردية أو جماعية أحيانًا إلى مدن هادئة أو ذات مناظر طبيعية جذابة من أجل العمل منها بما أن العمل سيكون عن بعد على أي حال، وقد ذكرنا أن بعض المدن والدول تشجع العاملين على الانتقال إليها، خاصة أولئك العاملين عن بعد، وهنا نضيف أنهم قد يفعلون ذلك اختيارًا من أنفسهم، غير أن هذا التنقل العشوائي قد يتسبب في بعض المشاكل لأهل المدن الصغيرة، كما حدث في مدينة كريستد بَت Crested Butte في ولاية كولورادو الأمريكية، وهي مدينة صغيرة بالكاد تتعدى مساحتها 2 كم مربع، إذ شهدت حالات هجرة إليها منذ بداية العمل عن بعد في ظل وباء كورونا.

وإن كانت تلك الحرية في الانتقال عاملًا في ازدهار العمل عن بعد ومثلًا عليه إلا أنها من ناحية أخرى خلقت مشاكل لم تكن موجودة من قبل، فتلك المدينة السابقة شهدت زيادات خيالية في تكلفة المعيشة بسبب حركة الهجرة الجديدة إليها إلى حد اضطرار المدينة إلى إعلان حالة طوارئ لندرة المنازل المتاحة للسكنى.

وإن كان هذا المثال بعيدًا عن العالم العربي إلى الآن على الأقل، إذ أن زيادة العمل عن بعد تعني ازدهاره في الوطن العربي لازدياد فرص توظيف الكفاءات العربية بين الدول العربية نفسها، كما هو الحال في شركة حسوب وغيرها من الشركات العاملة في الوطن العربي، وبين كافة الدول التي كان يصعب عليها جلب الكفاءات العاملة من الوطن العربي إليها.

بل قد يشكل هذا فيما رأيت فرصة كبيرة على النقيض مما حدث في تلك المدينة الأمريكية، فالعديد من البلاد العربية تتسم بالمركزية الشديدة التي تكثف فرص العمل والتعليم والصحة وغيرها في العاصمة الإدارية أو الاقتصادية للدولة وما جاورها، مما يثقل كاهل العاصمة نفسها ابتداءً، فتعداد السكان في منطقة مثل القاهرة الكبرى في مصر يزيد على بعض الدول العربية مثل تونس والإمارات مجتمعتين، ويساوي ضعف تعداد سكان الأردن، وأربعة أمثال تعداد سلطنة عمان، وأكثر من نصف تعداد المملكة العربية السعودية!

ومن ناحية أخرى يشبه تأثير المركزية في تلك الدول تأثير الهجرة تمامًا، فكما يهاجر الموظفون إلى دول أجنبية للعمل فيها ابتغاء فرص أفضل للحياة فإنهم ينتقلون انتقالًا شبه دائم إن لم تكن هجرة حقيقية إلى تلك المدن المركزية للاستقرار فيها لذات السبب، وقد حدثني كثير منهم أنه قد لا يرى بعض أفراد عائلته القريبين منه إلا كل عام أو اثنين! وذلك لغلاء تكلفة المعيشة في تلك المدن إلى حد اضطرارهم إلى العمل في وظيفتين أو أكثر.

وهنا يأتي دور العمل عن بعد إذ شهدنا عودة كثير من أولئك العاملين في المدن المركزية إلى أقاليمهم وقراهم التي فيها عوائلهم، بل وفيها بيوتهم التي تركوها من أجل العمل في المدينة، بعد أن صاروا يعملون عن بعد إما بسبب جائحة كوفيد أو بعدها لما قررت شركاتهم بقاء نمط العمل عن بعد على ما هو عليه، وحدثني بعضهم عن التوفير في النفقات وعودة صلة الأرحام وراحة النفس مما كانوا قد فقدوه بالعمل لسنوات في المدن الكبرى.

ثم ظهرت فرص جديدة لم تكن موجودة من قبل أو متاحة، إذ قرر بعض أولئك العاملين الانتقال إلى دول أخرى تمامًا للعمل فيها لأسباب أو ظروف طرأت عليهم ولم يكن بأيديهم حل لها من قبل، إذ رأينا سفر بعض العاملين عن بعد في مصر وعمان مثلًا إلى دول مثل تركيا للسياحة -أثناء العمل عن بعد!- أو طلبًا لتعليم أفضل لأولادهم، ومن الأردن والسودان إلى مصر لحضور دورات أو تعلم مهارة جديدة لم يكونوا يستطيعون ترك أعمالهم والسفر لها من قبل.

تحديات العمل عن بعد والتغلب عليها

يشكل العمل عن بعد نقلة نوعية للشركات قد تكون غير جاهزة لها لا تقنيًا ولا إداريًا، ومن ثم جاءت هذه السلسلة وأمثالها ليمهد الطريق لها، لتجنب الأخطاء التي قد تؤدي إلى عواقب قد يصعب إصلاحها، وتدور أغلب التحديات التي تواجهها الشركات هنا حول ما يلي:

  • انضباط العاملين عن بعد.
  • ضمان تنفيذ العمل على أكمل وجه.
  • كفاءة التواصل بين العاملين والإدارة وبين العاملين وبعضهم.
  • حل مشكلة رواتب العاملين عن بعد وضرائبها، وبقية البنود المالية من تأمينات اجتماعية وصحية وغيرها.

هذا إضافة إلى الآثار الجانبية للتقنيات التي تُستخدم في العمل البعيد، كأن تتسبب أدوات متابعة العمل في تشتت العاملين عن بعد إذا كثرت قنوات العمل، كأن يرسل المدير رسالة على بريد العمل ثم يخبر العاملين أنه أرسلها في قناة محادثات أخرى مثل واتس اب أو سلاك أو تليجرام أو كامب فاير وغيرها، وإن كان من يفعل هذا يتعذر بقلة وعي العاملين باستخدام الأدوات التقنية أو بمحاولة ضمان وصول أخبار العمل ورسائله إلى العاملين، إلا أن هذا يؤدي إلى آثار عكسية أحيانًا كما سنبين لاحقًا.

انضباط العاملين عن بعد

يريد المدير وصاحب العمل أن يضمن عمل الموظف عن بعد بكفاءة تضاهي العمل من المكتب، وهذا حقه بما أنه يدفع المال كل شهر في صورة رواتب وضرائب ومنافع أخرى للموظف، وقد أظهر العديد من مدراء الشركات الكبرى عدم رضاهم بنمط العمل البعيد لأنه يشجع على الكسل وقلة الإنتاج، وقد كان أبرزهم في هذا إدارات شركة جوجل وتيسلا وأبل، حيث صرحت الأولى أنها تريد إعادة العاملين إلى المكتب تدريجيًا مع استثناءات، وكذلك شركة أبل التي استقال منها إيان جودفيلو Ian Goodfellow، وهو أحد مدراء الذكاء الصناعي بعد رفضه للسياسة الجديدة التي تريد فيها الشركة أن يعود العاملون إلى الشركة ثلاثة أيام على الأقل في الأسبوع.

وكذلك كان إيلون ماسك يصرح بين الحين واﻵخر إما علنًا على تويتر أو داخليًا في رسائل شركة تيسلا البريدية أنه يريد للعاملين أن يعودوا للعمل من الشركة، ولا يُحسب للعامل حضوره إلا إذا كان من فرع الشركة الذي يتبع له العامل، في حين أنه وافق على سياسة العمل عن بعد للعاملين في شركة تويتر التي دخل في مفاوضات لشرائها.

فالأمر بين الشركات يدور وفق الحاجة، بحيث تحتاج الشركات التي تصدر منتجات حقيقية مثل السيارات والطائرات أن يتواجد المدراء والمهندسون على أرض المصنع جنبًا إلى جنب مع الفنيين الذين يعملون في الغالب ساعات طويلة، وهو ما صرح به ماسك أن من يريد العمل عن بعد في تيسلا يجب أن يعمل 40 ساعة على الأقل كل أسبوع من الفرع التابع لها. أما الشركات التي تكون منتجاتها تقنية وبرمجية، فلا يُشترط العمل من المكتب بنفس القدر المطلوب في النوع السابق.

ولا شك أن لكل نظام عمل مزايا وأوجه قصور تعتريه، ويفاضل صاحب العمل بين هذا وذاك لتحقيق أفضل النتائج، فإن كان العمل من المكتب يسهل على صاحب العمل “حصر الرؤوس” أو “Headcount” ليطمئن إلى سير العمل وأنه لا يدفع مالًا لغائب، وأن الأفكار تتلاقى في المكتب فقط، والحق أن هذه دعاوى مردها إلى أن صاحب العمل أو المدير لا يعرف كيف يدير الفرق البعيدة، وأنه يجب وضع المهام والأعمال التي تحتاج إلى تواجد حقيقي في حسابات العمل الحر، كما رأينا في مثال تويتر وتيسلا أعلاه.

ويُضمن انضباط العمل البعيد بأوجه كثيرة تكاد تنفي الحاجة إلى التواجد في المكتب إلا في أضيق الحدود، فتفضل بعض الشركات التواصل غير المتزامن مثل حسوب و 37Signals وغيرهما، وتعتمد شركات أخرى من التي تتعامل مع بيانات أكثر حساسية طرقًا مختلفة لضمان تواجد الموظف في أوقات العمل الرسمية، بل ولضمان عدم جلوس غيره على الحاسوب كذلك، بأن تثبت برمجيات تلتقط صورًا للشاشة مع لقطة من كاميرا الحاسوب، وتوجد صورة أخف من هذا في بعض منصات العمل الحر التي تعتمد نظام العمل بالساعة مثل Freelancer، إذ توفر تطبيقًا يثبته المستقل على حاسوبه ليلتقط صورة من شاشة الحاسوب أثناء ساعات العمل التي يحددها المستقل، تُرسل إلى العميل على موقع المنصة ليطمئن العميل أنه يدفع حقًا مقابل ساعات عمل حقيقية.

ضمان تنفيذ العمل

سيقول بعض المدراء أنهم يريدون ضمان تنفيذ العمل على الوجه الأمثل، وهذه حجة يسهل تفنيدها ودحضها، ذلك أن الموظفين في الغالب يعملون على حواسيب ولا يتأكد المدير من عمل الموظف إلا من نتائجه التي يحصل عليها دوريًا أو من ملفات العمل المشتركة، وسواء هذا أو ذاك يتم تنفيذه رقميًا ويمكن تنفيذه عن بعد.

فإن قال بأنه يريد ضمان عمل الموظف في ساعات العمل عدنا إلى النقطة السابقة التي نستخدم فيها البرمجيات اللازمة لضمان تواجد الموظف في ساعات عمله، واستخدام الساعات المتراكبة لضمان تفاعل الموظفين معًا، وهكذا.

كفاءة التواصل

هنا لا نقول أن التواصل الحقيقي في المكتب يضاهيه شيء، ولكن نحاول إثبات أنه غير ضروري في أغلب الوقت، بل ويأتي بنتائج عكسية أحيانًا!

فكر في الأمر قليلًا، هل تقضي يوم العمل تتحدث مع الموظف في اجتماع يحتاج إلى تواجدك معه شخصيًا، أو يفعل الموظفون هذا مع بعضهم بعضًا؟ كلا، بل ينقضي أغلب الوقت في مهام يحتاج الموظف إلى التركيز الشديد فيها دون مشتتات، ألم يكن هذا الغرض من مقرات الشركات بالأساس؟ أن يستطيع العامل التركيز دون مشتتات من أهله أو غيرهم؟ بل يظل الموظف يطمح أن يكون له مكتب مستقل خاص به لئلا يزعجه أحد أثناء العمل، ويرى أن من يحصل على هذا المكتب فاز بحظ وافر، فكيف ونحن نقول أن العمل عن بعد يوفر ذلك المكتب الخاص لكل موظف!

أما الاجتماعات وما يحدث فيها من تواصل، فقد حلت محلها الاجتماعات الافتراضية وجربتها مؤسسات العالم كله في فترة وباء كوفيد-19 دون مشاكل، بل ونحن نفعلها كل يوم في اتصالاتنا بأحبابنا، غير أننا نفضل الاجتماع الشخصي بهم لما يجمع بيننا من أرحام وعلاقات شخصية، فالإنسان يأنس بوجوده مع أناس آخرين وهو اجتماعي في نهاية المطاف، أما في العمل فهو كما يقول مؤسسو 37Signals، أن “الشركات ليست عائلات، وإنما تحالف بين عائلات”، ويقصدون بها تحالف بين عوائل الموظفين.

وكذلك كثرت قنوات التواصل الخاصة بالعمل وما يتبعه من احتياجات من سبورة للشرح أو تواصل مرئي أو رفع لليدين لطلب الحديث أو كتم أصوات غير المتحدثين للتركيز على المتحدث، وغيرها مما لم يعد معه حاجة للاجتماعات الحقيقية، بل تذكر مراجعات هارفارد للأعمال Harvard Business Review أن الاجتماعات الافتراضية تفضُل هنا في جلسات العصف الذهني لابتكار الحلول للمشاكل وتمثل خيارًا أفضل للشخصيات الانطوائية أو الموظفين الأحدث.

وعلى المدراء هنا أن يتخلوا عن الحاجة للرد الفوري على الرسائل، فهذا يقلل إنتاج الموظفين ويزعجهم بسبب التشتت على أي حال، ثم يصعب عليهم العودة للتركيز على المهمة التي كانوا يعملون عليها، بل بما أن الرسالة أُرسلت في بريد أو قناة تواصل، فينظر الموظف في الرد عليها حال إنهائه للمهمة التي بين يديه، وحينئذ يكون رده عليها أفضل بما أن ذهنه خلا للتفكير فيها.

الأثر العكسي لبرامج العمل المشترك

تحتاج هذه النقطة إلى كتب مطولة لبيانها بتفاصيلها، وقد كُتبت حقًا فيها كتب عظيمة النفع مثل كتاب العمل العميق Deep Work لكالفن نيوبورت Calvin Newport الأستاذ المساعد لعلوم الحاسوب في جامعة جورج تاون، وكتابي “It doesn’t have to be crazy at work” و “Remote, Office Not required” اللذين ألفاهما جيسون فِريد Jason Fried وديفيد هانسون David Hansson، وهما مؤسسا شركة 37Signals، ذلك أن العاملين عن بعد يحاولون تعويض التواصل الحقيقي إلى أقصى قدر ممكن، فتجدهم على قنوات التواصل مثل تريللو وعلى البريد الإلكتروني الخاص بالعمل، إضافة إلى برنامج للتواصل المرئي مثل زوم أو تيمز Teams، فضلًا عن المجموعات الخاصة بين العاملين وبعضهم أو بينهم وبين مدرائهم على برامج المحادثة مثل تليجرام أو واتس اب!

وتلك فوضى حقيقية، فكأن لدى كل موظف خمس نسخ من مديره في العمل، تخرج عليه كل واحدة من باب مختلف بنفس الرسالة كي يضمن أنها وصلته، وكذلك في حال زملائه في العمل، ويكثر هذا في حالة الموظفين الأصغر سنًا ممن ولدوا في الألفية مثلًا إذ لم يتعودوا على العمل العميق أو بدون مشتتات، أو استخدام قناة واحدة للتواصل مثلًا كالبريد الإلكتروني، إذ أخبرني بعض المدراء أنه يلجأ لاستخدام برامج المحادثة النصية مثل واتس اب في أغراض العمل لأن الموظفين الذين هم دون الخامسة والعشرين لا يعرفون كيف يستخدمون البريد الإلكتروني! ولم أصدقه حتى رأيت بنفسي عينات عشوائية لأولئك الموظفين، وهم حقًا يبدو أنهم لم يتعرضوا للبريد في حياتهم لاستغنائهم عنه بوسائل التواصل الأحدث مثل برامج المحادثة.

وتُحل تلك المشكلة بالاتفاق على أغراض لوسائل الاتصال المختلفة، فلا تُستخدم برامج الاجتماعات المرئية إلا لذلك الغرض، ولا تُرسل رسائل أطول من ثلاثة أسطر مثلًا في البريد الإلكتروني، وإنما تُحول إلى اجتماعات صوتية أو مرئية، وتُخصص قنوات للإشعارات اللازم الاطلاع عليها بحيث تبقى لدى الموظف مفعّلة إشعاراتها إذا ما أراد كتم بقية وسائل الاتصال.

ويعود هنا أسلوب التواصل غير المتزامن لتظهر فائدته، ففيه يحظى كل موظف ببضع ساعات من العمل العميق دون مشتتات أو إشعارات لأن بقية زملائه في العمل لم يبدأ يوم عملهم بعد أو قد انتهى بالفعل، فحتى لو ترك إشعارات وسائل التواصل الخاصة بالعمل مفعلة فلن يسمع منها شيئًا لأنه لا يحدث فيها شيء ذا بال في الغالب، ولو حدث فسيكون مهمًا على الأرجح.

وتلك النقطة مهمة للمدراء خاصة بما أنهم يريدون ردودًا فورية على أغلب ما يرسلونه إلى الموظفين، وينزعجون من تأخر الموظف لانشغاله بمهمة أو اجتماع، والأولى ترك فترة زمنية كافية لكل موظف حتى ينتهي من عمله أو المهمة التي بين يديه، أو تخصيص وقت كل يوم يُنظر فيه في رسائل البريد، قبل أن يُحاسَب الموظف على تحديث في شروط العمل أو لوائحه لم يلتزم به لأنه لم يقرأ الرسالة البريدية الخاصة به، ويفضّل الاتفاق على قناة تواصل ما للأخبار التي لا يمكن تأجيل الاطلاع عليها.

البنود المادية

قد يظن بعض المدراء أن أمر الرواتب سهل بغض النظر عن محل عمل الموظف، وينظر البعض إلى التفاصيل والخطوات والشروط الواجب تحقيقها لكل دولة من الدول التي لديه أيدي عاملة فيها فيحجم عن التوظيف عن بعد، ويقتصر على التوظيف المحلي فقط.

ولا تمثل هذه الأمور مشكلة في حالة التعاقد وفق المشروع مثل حالات العمل على منصات العمل الحر، كمنصة مستقل أو خمسات أو غيرها، حيث لا يتحمل صاحب الشركة أي تكاليف أو التزامات من طرفه، وإنما يتحمل المستقل تلك التكاليف ويقتطعها من قيمة مشروعه، أما في حالة التوظيف المنتظم، فإن صاحب العمل في الغالب هو من يحمل عبئها، وتنتهج الشركات عدة أساليب لحل هذه الأمور ننظر فيها في مقال لاحق.

الآثار الاجتماعية للعمل البعيد

قد تواجه الشركة مشكلة في بناء تواصل فعال بين العاملين عن بعد، لغياب التواصل البصري ولغة الجسد المعبرة عن مزاج المتحدث ومدى جديته في طرح الحديث، مما يوصل قصده إلى السامع وصولًا واضحًا لا يشوبه لبس ولا سوء فهم، فيُنظر في حل تلك المشكلة إن وجدت أو تلافيها عن طريق التواصل المرئي باجتماعات الفيديو مثلًا.

كذلك سيعاني العديد من العاملين عن بعد من العزلة أثناء العمل وانخفاض معدل الإنتاج والتركيز في العمل، وهو ما كان العمل في المكتب التقليدي يعالجه بسبب بيئة العمل التي تحفز على الإنتاج، وتُحل تلك المشكلة بتوجيه الشركة للعاملين لتصميم بيئة عمل مناسبة من حيث التصميم المكتبي نفسه وصولًا إلى قواعد العمل عن بعد لكل من الموظف والمحيطين به إن كان يعمل من المنزل، وبتنظيم اللقاءات الدورية ووسائل التواصل غير الرسمي لتشجيع انسياب التواصل غير المتكلف بين العاملين.

وتمامًا على تلك النقطة الأخيرة، فلعل أحد أكثر الأمور التي يصعب تنفيذها في نمط العمل عن بعد هو بناء روابط تتعدى حاجز علاقات العمل بين الموظفين في الشركة الواحدة، وتحل الشركات التي تنتهج العمل عن بعد تلك المشكلة بعدة طرق.

فشركة حسوب على سبيل المثال تنظم اجتماعات سنوية يلتقي فيها الزملاء ببعضهم وجهًا لوجه، وتنظم بعض الشركات الأخرى رحلات سنوية لأحد فرقها في دولة ما ليعمل مع فريق آخر تابع للشركة في دولة أخرى لمدة أسبوع مثلًا في مكتب مشترك، من أجل تعزيز التواصل والعلاقات البشرية بين الزملاء، فيتعرفوا على شخصيات بعضهم بعضًا.

تقييم مزايا وتحديات العمل عن بعد

ذكرنا المزايا والتحديات هنا لنستطيع المفاضلة بينهما، كي يقيم المدير موقفه من نمط العمل عن بعد ويرى إن كان يصلح له أم لا، فقد يوفر تكاليف كبيرة في تكاليف المساحات المكتبية مثلًا وما يلحقها من تجهيزات، لكن قد يواجه صعوبة في تدريب الموظفين الجدد عن بعد، وتحل بعض الشركات تلك المشكلة بتخصيص مقراتها كلها أو جزء منها للموظفين الجدد، وتعيين موظفين قدامى لتدريبهم يعملون معهم لفترات مؤقتة من مقر الشركة لتسريع عملية التدريب، وإن كان يمكن تنفيذ نفس الأمر عن بعد دون الحاجة إلى مقرات الشركات ابتداءً، بإرسال الحواسيب إلى الموظفين عن بعد وتنفيذ التدريب افتراضيًا كعملية تعليمية بحتة باستخدام برامج التواصل المرئي وأدوات العمل المشترك الأخرى.

لكن من الناحية الأخرى، قد تجد بعض الشركات أن العمل عن بعد يقلل من فرص التعاون المباشر الذي يُستغل في فترة تدريب الموظفين الجدد، أو قد يرى العاملون أنهم يرتاحون للعمل من المنزل أكثر، خاصة في حالة النساء اللاتي لا يردن الإهمال في حق بيوتهن وأولادهن.

ومثل تلك البيانات التي تجمعها المؤسسة أو المدير المسؤول عن الفرق العاملة عن بعد توجه قرار اعتماد المؤسسة على هذا النمط إما كليًا أو جزئيًا، أو تقرر أنه لا يصلح لها أصلًا.

الصور المختلفة للعمل عن بعد في الشركات

تختلف الشركات عن النهج الذي تتبعه في العمل عن بعد إذ يعتمد هذا على إمكانيات الشركة نفسها واحتياجاتها، فقد تعمل بعض الفرق فيها عن بعد كليًا أو جزئيًا، أو قد تقيد الشركة العاملين فيها بالعمل ضمن نطاق جغرافي معين، وهكذا.

شركات تعمل عن بعد كليا

هي شركات تعمل بالكامل عن بُعد، ومنها نوع يعمل في نطاق زمني أو جغرافي محدد، وتلك الشركات قد يكون لها مكاتب أو مساحات عمل مشتركة أو لا يكون، فإن كان لها تلك المكاتب فإنها تخصصها لتدريب الموظفين الجدد، أو لمن لا يستطيعون العمل من منازلهم لسبب أو لآخر، وقد تخصص بعض تلك الشركات تطبيقات هاتفية لحجز المكاتب الموجودة في مقر الشركة لعدة ساعات أو أيام إذا كان الموظف ينوي الحضور إلى الشركة.

وتفرض تلك الشركات على موظفيها أن يعملوا من حيز جغرافي -كدولة أو مدينة بعينها- أو زمني محدد مسبقًا، إما لأسباب قانونية تتعلق بالدولة التي تعمل فيها الشركة، أو لأسباب إدارية إذا كان العمل يعتمد على متغيرات زمنية أخرى، مثل مشاريع متزامنة أو عملاء في منطقة زمنية بعينها، أو لأسباب أمنية تتعلق ببيانات الشركة نفسها، وإن كانت هذه تندر لأن الشركات تعالجها باستخدام شبكات خاصة VPN أو حواسيب مخصصة للعمل تكون مراقبة ولا تسمح بالعبث بها.

أما النوع الثاني منها فهي شركات أكثر مرونة حيث لا تشترط حيزًا جغرافيًا معينًا للعمل، وقد تسمح بالتواصل غير المتزامن بحيث يعمل الموظف من أي مكان شاء طالما يضمن تراكب ثلاث ساعات أو أكثر مع بقية زملائه أثناء ساعات عمله، وفي الغالب يحدد أيام العمل والإجازات بالتنسيق مع الموارد البشرية في الشركة، ويكثر هذا في الشركات التقنية.

من أمثلة تلك الشركات شركة حسوب، وشركة 37Signals، و Buffer، وغيرها.

شركات تعمل عن بعد جزئيا

تسمح تلك الشركات لموظفيها بالعمل عن بعد بضعة أيام في الأسبوع، أما بقية الأيام فيجب أن تكون من المكتب، وينطبق عليها بقية الشروط التي ذكرناها في النوع السابق، ومن أمثلة تلك الشركات جوجل وأبل، بعد انتهاء فترة العمل عن بعد إثر جائحة كورونا.

الجمع بين نوعي العمل عن بعد

قد تجمع الشركة بين نوعي العمل عن بعد عند الحاجة، كأن تسمح بالعمل عن بعد كليًا لبعض الفرق التي لا تحتاج إلى الحضور إلى المكاتب، مثل فرق الدعم الفني والتطوير، وتسمح للبعض الآخر بالحضور عند الحاجة، ويكون ذلك بالتنسيق مع بقية أفراد الشركة إن كان العدد كبيرًا، فتستخدم بعض الشركات تطبيقات داخلية لحجز المكاتب الموجودة في مقرات الشركة مسبقًا لئلا يحدث زحام داخل الشركة في أحد الأيام دون غيره.

وشركة جوجل مثلًا إحدى الشركات التي تريد للموظفين أن يعملوا من الشركة عدة أيام في الأسبوع، لكنها لم تمنع إلى الآن من يريد العمل عن بعد كليًا، خاصة إن كان من مدينة أخرى غير التي فيها مقرات الشركة، مع شروط معينة منها تخفيض الراتب إن كان يعمل من منطقة أقل في تكلفة المعيشة.

فترات العمل عن بعد

قد تعمل بعض الشركات عن بعد من بداية تعاقد الموظف فلا تعتمد لها مقرًا للموظفين أو مساحة عمل، وتترك حرية مكان العمل للموظف مطلقًا، غير أنها قد تعالج بعض تحديات العمل الحر التي تؤثر على أداء الموظفين بعدة طرق، فقد تخصص ميزانيات لتجهيز مكاتب منزلية للموظفين، أو اشتراكات في مساحات عمل قريبة ليعملوا منها، أو تخصص فترة كل عام يسافر فيها العاملون في إحدى الدول للعمل مع زملائهم من نفس الفريق في دولة أخرى في مقر للشركة أو مساحة عمل لمدة أسبوع أو أكثر، يلتقي فيها العاملون وجهًا لوجه، لتوطيد العلاقة بينهم وتقريب الثقافات المختلفة.

ومن ناحية أخرى تختار بعض الشركات أن يعمل الموظفون عدة أيام فقط من المنزل، والبقية تكون في مقر الشركة، خاصة إن كان أغلب العاملين في مكان واحد قريب من الشركة، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الأمر يعود إلى احتياجات الشركة نفسها وإمكانياتها المادية والإدارية، فليست كل الشركات يناسبها العمل عن بعد بنمط محدد دون غيره.

تواصل الفرق العاملة عن بعد

كما أن العمل عن بعد فيه عدة صور وأنواع، فإن له عدة أساليب مختلفة للتواصل كذلك لكنها تقع في الغالب تحت تصنيفين أساسيين، وهما التواصل المتزامن وغير المتزامن، هذا إضافة إلى التواصل الحقيقي إن كانت الشركة تعمل عن بعد جزئيًا، فحينئذ قد تخصص أوقاتًا من أيام العمل من المكتب للاجتماعات المهمة أو المكلفة إن كانت تتم عن بعد، ذلك أن اعتماد العمل عن بعد جزئيًا يعني أن الشركة لا زالت تدفع تكاليف لمكاتبها في كل شهر أو كل عام، فإضافة تكاليف الخدمات السحابية لاجتماعات الفيديو قد تكون عبئًا على الشركة إذا كان ممكنًا إجراء الاجتماع في مكتب الشركة.

التواصل المتزامن

يحدث الاتصال المتزامن في نفس الوقت ، مما يعني أن الاستجابات فورية في الغالب، وأكثر طرق التواصل اللحظي ذاك هي المكالمات الهاتفية ومؤتمرات الفيديو والاجتماعات الافتراضية، وهذا الأسلوب يناسب المواقف التي يُحتاج فيها إلى الرد المباشر والنقاش المثمر في جلسات العصف الذهني أو الاجتماعات أو الردود الفورية.

لكن هذا يعني أن يعمل الموظفون في نفس التوقيت الزمني بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية، وأن تكون احتمالات تعطل أدوات العمل أو معدات الاتصال نتيجة انقطاع للطاقة أو الاتصال بالإنترنت قليلة الحدوث، بل يُفترض وجود اتصال بالإنترنت لا تقل سرعته عن 5-10 ميجابت/ث من أجل التواصل المرئي البسيط.

التواصل غير المتزامن

أما في حالة التواصل غير المتزامن فلا يُشترط تواجد اﻷطراف المتواصلة في نفس الوقت من أجل تحقيق ذلك التواصل، فيُستخدم البريد الإلكتروني وتطبيقات إدارة الأعمال والبرمجيات التشاركية في تنفيذ المهام وتطبيقات المكتب السحابية وغيرها.

وهنا لا تُشترط الاستجابة الفورية، بل يرد كل موظف في الوقت الذي يناسب جدول عمله، وتكفي ساعات عمل متراكبة لإجراء أي اجتماعات قد تكون طارئة أو لازمة، سواء صوتية أو مرئية أو حتى تواصلًا فوريًا في محادثة نصية من أجل الحصول على رد سريع، وهو لا يتأثر بتعطل تقنيات الاتصال أو انقطاع الطاقة كما يحدث في التواصل المتزامن، كما أن له مزية أخرى تصلح للأعمال التي تحتاج إلى تركيز كبير لعدة ساعات، وتظهر في طبيعة عمل الساعات المتراكبة، فتلك الساعات تعني وجود فترات زمنية لا يتحدث فيها الموظف مع باقي زملائه، فيصرفها في التركيز على المهام التي بيده وإنهائها كما ذكرنا من قبل، ثم تخصيص الأوقات التي يشترك معه زملاؤه فيها للنقاشات حول المهام والاجتماعات وغيرها.

هل يصلح العمل البعيد لشركتي؟

يتبادر إلى الذهن سؤال هنا بعد الاطلاع على مفهوم العمل عن بُعد وفوائده وعيوبه، عن جدوى تبني هذا النظام إن لم يكن المدير أو المؤسسة قد تبنوه من قبل، فما هي الدوافع التي تجعلنا نختار تحويل الشركة إلى نظام العمل عن بعد، فهل نحتاج إلى إبقاء الموظفين في بيوتهم لظرف طارئ عام على الدولة التي فيها مقر الشركة أو خاص على مستوى الشركة نفسها، كأن تكون حالة صحية أو أمنية أو مناخية لا يمكن السماح فيها للعاملين بمخاطرة القدوم إلى مقر الشركة، أو يكون الأمر مجرد تغير بعض ظروف العمل في الشركة، كأن تحتاج مقر الشركة في تدريب موظفين جدد أو إخراج فرق عاملة على بعض المشاريع إلى أماكن منفصلة عن باقي الشركة لحاجة تلك الفرق إلى ذلك، ولعل القارئ تبادر إلى ذهنه الآن سبب أو مجموعة من الأسباب من بيئة عمله تدفعه لتبني ذلك النظام.

من المقبول عقلًا أن العمل عن بعد لا يصلح لكل الشركات، بل لا يصلح لكل الفرق داخل الشركة الواحدة، وقد بدا هذا جليًا إذ أعلنت جوجل بعد تخفيف الإجراءات الاحترازية من جائحة كوفيد-19 عن نيتها لإعادة الموظفين إلى مقرات الشركة في خلال بضع سنين.

ومن ناحية أخرى فقد يرغب بعض المدراء في تواجد الموظفين معهم تحت نفس السقف، فهذا أسهل في الإدارة من جانبهم عن الفرق البعيدة التي تتطلب أدوات وبرمجيات متابعة وغيرها، ويصعب هذا في الأعمال التي تحتاج إلى تركيز عميق واجتماعات قد لا تكون مجدولة مثل أعمال البرمجيات، خاصة في حالة المدراء الذين لم يتعودوا على الإدارة البعيدة.

فعند تعذر تقييم العاملين عن بعد بسبب طبيعة عمل المؤسسة نفسها أو حاجتها إلى أنماط أعمال تتطلب وجودًا في مقر الشركة وتواصلًا أسرع من العمل عن بعد فحينئذ يكون العمل من مقرات الشركة هو الأنسب، فالعمل عن بعد ليس خيرًا محضًا ولا شرًا في نفسه، بل هو أسلوب للعمل قد يصلح لكثير من الشركات والمؤسسات العاملة في السوق ويوفر لها كفاءات لم تكن متاحة محليًا، ويوفر نفقات كانت لتُنفق في جلب تلك الكفاءات أو تجهيز بيئات العمل المحلية لها، غير أنها من الناحية الأخرى قد تعطل أداء بعض المؤسسات التي لا يصلح العمل عن بعد لها.

أمثلة لشركات تعمل عن بعد

قد ذكرنا أن العمل عن بعد ليس جديدًا في ذاته ولا مستحدثًا بظرف طارئ، وهنا نذكر أمثلة لبعض الشركات التي اعتمدت العمل عن بعد منذ بدئها أو بعده من غير اضطرار بسبب جائحة أو غيرها، وقد بدت نتائج العمل البعيد عليها في صور إيجابية.

حسوب

تعمل شركة حسوب عن بعد منذ نشأتها في 2011، وقد استفادت من العمل عن بعد في توظيف كفاءات من مختلف أنحاء الوطن العربي إن لم يكن من خارجه دون التقيد بمحل إقامتهم أو تكلف جلبهم إلى مقر الشركة نفسها، وهذا مفيد للشركات في بدئها لتقليل التكاليف والجهود الضائعة في إدارة الموارد البشرية والتركيز على المنتج نفسه.

وقد أثمر هذا عن مجموعة من المنتجات التي صبت في نهر العمل البعيد أيضًا فقد أرادت تعميم الفائدة التي جنتها منه من توفير منصات للعمل الحر ومنصات للتوظيف والعمل عن بعد وخدمات أخرى مكملة لها تعلم العاملين العرب وتطور مهاراتهم التقنية والمهنية، إضافة إلى الكتب التي أصدرتها الشركة من خلال أكاديمية حسوب، والتي منها هذا الكتاب نفسه في طبعته الأولى، وكتاب دليل المستقل والعامل عن بعد، ودليل الأمان الرقمي، إضافة إلى الكتب المتخصصة في البرمجة والتسويق والتصميم وغيرها.

مساق

تأسست شركة مساق عن بعد كليًا عام 2020 واستفادت أكبر استفادة من ذلك بضم خبرات من كامل الوطن العربي الأمر الذي يساعدها على التوسع فيه بما أنها تستهدف العالم العربي في المقام الأول، وقد وصل فريقها الموزع عن بعد إلى 15 من السعودية والإمارات والبحرين ومصر وسوريا وفلسطين.

وكان هدف مساق مساعدة المعلمين والمدارس والأكاديميات على إنشاء منصاتهم التعليمية على الإنترنت بسهولة ويسر دون الاهتمام بالجانب التقني والبرمجي، وبذلك ينصب التركيز على المحتوى التعليمي المقدم، وتستهدف كما ذكرنا العالم العربي بتوظيف الخبرات العربية أينما كانت في خدمة العالم العربي بنشر الأكاديميات التعليمية على الإنترنت ليستفيد منها أي متعلم عربي أينما كان.

37Signals

شركة برمجيات أمريكية تأسست في 1999، كان تركيزها في البداية على تصميمات الويب، ثم انتقلت إلى بناء تطبيقات للويب، وقد طورت إطار العمل Ruby On Rails لاستخدامه داخليًا قبل نشره للعامة في 2004، وتعمل عن بعد بأسلوب التواصل غير المتزامن.

لدى الشركة فلسفة في العمل تختلف عن أغلب الشركات الأمريكية التي تأثرت بصبغة شركات وادي السليكون، وتقوم على العمل الهادئ المنتظم، وعدم إرهاق العاملين بكثرة وسائل التواصل، والتشجيع على العمل العميق الذي لا يزيد عن 40 ساعة أسبوعيًا، وقد تعمقت في تفصيل تلك الفلسفة كثيرًا إلى حد أنها خرجت بعدة كتب تدعو إلى هذا النمط، مثل Rework و It doesn’t have to be crazy at work و Remote: Office not required وغيرها.

نماذج أخرى

تكثر نماذج الشركات العاملة عن بعد إما كليًا أو جزئيًا في الواقع وقد يُخصص لها مقال طويل أو كتيب صغير يجمعها، لكننا جمعنا الفوائد التي تُستخرج من نمط عملها البعيد في هذه السلسلة، ويُنظر في بقية الأمثلة لمن أراد البحث عنها، فهي تتغير وفقًا لرغبات الشركة وحاجاتها، غير أن أهم الشركات التي تتبع هذا النهج وقت كتابة هذه الكلمات هي ما يلي:

  • Buffer: شركة برمجية اشتهرت بتطبيقها الذي يحمل نفس الاسم لإدارة الحسابات في الشبكات الاجتماعية.
  • Reddit: موقع النقاش وتقييم المحتوى.
  • Google.
  • شركة ميتا: وهي فيس بوك -قبل تغيير اسمها‎- الغنية عن التعريف.
  • تويتر: صاحبة شبكة التواصل الاجتماعي الغنية عن التعريف.
  • شركة SAP: شركة برمجيات ألمانية مختصة ببرمجيات إدارة العمليات في الشركات.
  • شركة ليفت Lyft: شركة نقل الركاب المثيلة لشركة أوبر.
  • 3M: شركة صناعية لها منتجات في طب الأسنان والمواد اللاصقة وأدوات الحماية وغيرها.

خاتمة

حاولنا في هذا المقال التمهيد للعمل عن بعد بإجمال ليعلم القائمون بالإدارة والتوظيف في الشركات أبعاده إن كانوا يفكرون في اعتماده بشكل أو بآخر، ثم نفصل في بقية السلسلة إن شاء الله ما ذُكر ها هنا، من آليات لمتابعة العمل عن بعد، وقياس أداء العاملين والحلول التي تتبعها أشهر الشركات العاملة عن بعد في العالم العربي لمتابعة الموظفين وتطويرهم وكذلك من الشركات العاملة في السوق الأجنبية، والأساليب المختلفة للتوظيف عن بعد، إما توظيفًا دائمًا أو تعهيدًا خارجيًا.

ولا شك أننا سنفصل قبل كل هذا كيفية التأسيس الصحيح لبيئة العمل عن بعد في الشركة، كي يتلافي القارئ الأخطاء والتخبطات التي حدثت أثناء الانتقال السريع إلى العمل عن بعد من كثير من المؤسسات في السوق العربية والعالمية.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *